الحضارة
سبق وريادة وتجديد
اهتمت الدولة الإسلامية في عهد الخلافة الراشدة والأموية والعباسية بالعلوم والمدنية كما اهتمت بالنواحي الدينية فكانت الحضارة الإسلامية حضارة تمزج بين العقل والروح، فامتازت عن كثير من الحضارات السابقة. فالإسلام دينٌ عالمي يحض على طلب العلم وعمارة الأرض لتنهض أممه وشعوبه، وتنوعت مجالات الفنون والعلوم والعمارة طالما لا تخرج عن نطاق القواعد الإسلامية؛ لأن الحرية الفكرية كانت مقبولة تحت ظلال الإسلام، وامتدت هذه الحضارة القائمة بعدما أصبح لها مصارفها وروافدها لتشع على بلاد الغرب وطرقت أبوابه، وهذه البوابة تبرز إسهامات المسلمين في مجالات الحياة الإنسانية والاجتماعية والبيئية، خلال تاريخهم الطويل، وعصورهم المتلاحقة.
ملخص المقال
تعتبر صقلية المعبر الحضاري الثاني الكبير الذي انتقلت به الحضارة الإسلامية إلى أوروبا.
نافذة اليوم نفتحها على مدينة أوروبية كانت في يوم ما إسلامية، وهي مدينة باليرمو عاصمة صقلية بإيطاليا، بدأ المسلمون فتح صقلية عام 212هـ= 827م، بقيادة أسد بن الفرات في دولة الأغالبة، ومقرها تونس، ولم يكتمل الفتح إلا بعد حوالي مائة وأربعين عامًا، في 354هـ= 965م، أما باليرمو فقد فُتِحت عام 216هـ= 831م، وقد حكم المسلمون صقلية من سنة 212هـ وحتى سنة 484هـ= 1091م، أي حوالي 272 سنة، وكان هذا الحكم في بدايته سُنِّيًّا تبعًا للأغالبة الفاتحين، ثم عند سقوط دولة الأغالبة في شمال إفريقيا لصالح العبيديين سقطت بالتبعيَّة صقلية في أيديهم.
تعتبر صقلية المعبر الحضاري الثاني الكبير الذي انتقلت به الحضارة الإسلامية إلى أوروبا، والمعبر الأول الذي يسبقها هو الأندلس، أما الملمح الحضاري الذي نتكلَّم عنه اليوم هو كتاتيب باليرمو، والكتَّاب هو بمثابة المدرسة الابتدائية اليوم، وقد سبق وذكرناه في مقال سابق عند حديثنا عن كتاتيب المسجد الأموي بدمشق، واليوم نتحدث عن هذه الكتاتيب أيضًا، ولكن في مدينة إسلامية أوروبية، ولن يختلف تطوُّرها كثيرًا عن كتاتيب الشرق، وهذا يدلُّ على ثبات المنظومة الحضارية الإسلامية، وأن الإسلام هو الذي قاد إلى مثل هذه التغييرات الحضارية.
نأخذ لقطتنا من تعليقات سجَّلها الجغرافي والرحالة الإسلامي الشهير ابن حوقل، وقد سجَّلها عن طريق المشاهدة لا السماع، وهذا في كتابه: التعليق والتنقيح لكتاب المسالك والممالك للإصطخري (صورة الأرض)، وكانت هذه الملاحظات في عام 363 هجرية، ومن من هذا الوصف نأخذ بعض الملامح الحضارية في هذه الكتاتيب:
أولًا: لاحظ ابن حوقل كثرة المساجد والكتاتيب في باليرمو، فكان في المدينة مائتا مسجد، وكان بها ثلاثمائة مُعَلِّم. مع العلم أن المدينة ليست ضخمة، فهي ليست القاهرة، أو دمشق، أو بغداد، أو مراكش، أو قرطبة، فمائتا مسجد بها رقم كبير، وكان مما قاله: "ولقد كنت واقفاً ذات يوم بها في جوار دار أبي محمد القفصي الفقيه الوثائقي فرأيت من مسجده في مقدار رمية سهم نحو عشرة مساجد يدركها بصري". هذه المساجد كانت صغيرة، وكثرتها تسمح للمسلمين بصلاة الجماعة دون سير مسافة كبيرة، ثم يكون هناك مسجد جامع كبير لصلاة الجمعة. أما اللافت حقيقةً فهو وجود هذا العدد من الكتاتيب في هذه المدينة الصغيرة نسبيًّا، مما يدلُّ على مدى احتفال المسلمين بالعملية التعليمية.
ثانيًا: كان المعلِّمون معفيين من دخول الجيش، وهذا لدورهم الريادي في تربية النشأ الذي هو عماد الأمة، فعلى عظم قدر الجهاد في سبيل الله، وخاصة في هذه المناطق المتاخمة للأعداء، والتي تعتبر كالثغور الدائمة، إلا أن المعلِّمين كانوا متفرِّغين للتعليم.
ثالثًا: نظرة الشعب للمعلمين: يقول ابن حوقل: "كانوا يرون أنهم أعيانهم ولبابهم وفقهاؤهم ومحصلوها وأرباب فتاويهم وعدولهم، وبهم عندهم يقوم الحلال والحرام وتعقد الأحكام وتنفذ الشهادات وهم الأدباء والخطباء"[1].
رابعًا: كان هؤلاء المعلِّمين هم الذين يقودون الحركة الفكرية في المدينة، وهم الذين يبدون آراءهم في السلطان والحكومة. يقول ابن حوقل عن المعلمين: "حتى إنهم المتكلمون على السلطان في سيره واختياراته، والإطلاق بالقبائح من ألسنتهم بمعايبه، وإضافة محاسنه إلى مقابحه".
خامسًا: لم تكن الكتاتيب تأخذ مالًا كثيرًا من المتعلمين، ولم يستغل المعلمون حاجة الناس إلى التعليم فيبالغون في الأسعار، ويفهم من كلام ابن حوقل أن حرفة التعليم لم تكن تدر خيرًا كثيرًا على أصحابها، حتى كان فيهم من لا يصيب من طلابه على كثرتهم أكثر من عشرة دنانير في السنة.
سادسًا: كان لشرف مهنة التعليم يمارسها عدد كبير من أعيان البلاد، ويتخرج في المدارس كثير من أولاد السراة.
سابعًا: كان الكتَّاب مؤسَّسة متكاملة، وقد ذكر ابن حوقل أن بعض الكتاتيب لم يكن بها معلم واحد، بل يدرس فيه خمسة معلمين، لهم من بينهم رئيس هو مدير الكتاب.
ثامنًا: ذكر ابن حوقل أن صبيان المكتب كانوا كثيرين، يصل أحيانًا إلى ثمانين طالبًا في الحلقة.. ومن بلدان مختلفة[2]، ومع ذلك فهذا عدد قليل نسبيًّا إذا قارناه بالمدن الإسلامية الكبرى الأخرى في الحضارة الإسلامية.
وكتاتيب باليرمو صورة حضارية راقية متعددة الجوانب، وهي إحدى الصور المهمة التي أثَّرت في تاريخ إيطاليا بوجه خاص، وأوروبا بشكل عام، وجميل أن نختم هذه الحلقة بكلمات المستشرق الإيطالي فرانشيسكو جابريللي، على الرغم من أنه متحامل على المسلمين في كثير من الأحيان، إلا أنه قال: "تظلُّ الفترة العربية بالفعل أعلى قمة وصلت إليها الجزيرة الكبيرة الواقعة في البحر المتوسط، سواء من حيث استثمار مواردها، أو الحياة المادية المتعلقة به"[3].
[1] ابن حوقل 1/ 127.
[2] ابن بشكوال، الصلة رقم 351.
[3] لمشاهدة الحلقة على اليوتيوب اضغط هنا
التعليقات
إرسال تعليقك